لم تظهر دميانة فجأة كنبت عشوائى فى قرية صغيرة فقيرة فى جنوب الوادى، فكانت وليدة صدفة وقعت عليها عينا مخرج محترف.. اختارها بطلة لفيلمه ريش الذى فاز أخيرًا بجائزة النقاد فى مهرجان كان، وأحدث ضجة كبرى وردود أفعال صاخبة تتأرجح بين الانبهار بالتجربة والهجوم الضارى ضدها.. ولكنها- كما أشارت الزميلة كريمة كمال فى مقال لها إلى تصريحات صحفية مصرية- ابنة نفس القرية التى تقطن بها دميانة وعائلتها، عايشت تلك الصحفية معاناة مجموعة من الشابات فى تكوين فريق عمل مسرحى لفرقة برشا.
واستطاعت أن تصنع المستحيل ليس فقط فى الحصول على جوائز مهرجان كان، ولكن فى التغيير المجتمعى عبر سنوات من الكفاح المضنى للتصدى للموروثات المتخلفة، والتراجع الحضارى المقيت. جاءت دميانة الأمية المستنيرة، بعد عودتها من مهرجان كان لتقف فى وجل واستحياء على الريد كاربت فى مهرجان الجونة، لتقابل بالاستهجان والسخرية والازدراء من الوجوه المنفوخة بالبوتكس والفيلر والأصباغ الغليظة.. فنزعت ورقة التوت عن الأردية العارية.
وأقنعة الاستعلاء الأجوف عن الوجوه اللامعة بالزيف، لتكشف عن عوراتهم المقيتة، وعالمهم الملون بالادعاء والقبح والأضواء الآفلة.. ارتدّت السهام المسمومة إلى صدورهم، فأدان الجمال الحقيقى القبح المصنوع، وتألقت البساطة والعفوية بملامحها الفرعونية وروحها الصافية، وانتزعت الإعجاب والحضور والاحترام.. كانوا قد أرادوا لها أن تعلن الاعتذار عن وجودها فى عالمهم المحتشد بالبغضاء والمتخم بالكذب والرياء والنميمة.. لكنهم فشلوا فى مسعاهم وبقى الفيلم الذى رفض أن يتحمل جمالًا مصنوعًا، رغم أنف المترفين والمخمليين وأعداء الحقيقة.
ليس الفقر ومظاهره البائسة هو المرادف الذميم للقبح كما أشاعوا وزايدوا فى تأفف واستعلاء.. لكن الصدق فى التعبير والنبل فى المقصد والانسيابية فى الطرح والشفافية فى السرد وتدفق المشاعر الحميمة والعمق فى المحتوى- هى الجمال بعينه.. وهى معنى الفن الحقيقى فى رسالته السامية.. وإلا ما عاشت سينما الواقعية الجديدة فى إيطاليا بأفلامها العظيمة، التى جسدت حياة رجل الشارع بعد الحرب العالمية الثانية.. وصُوّرت مشاهدها فى الجراجات والحوارى والأزقة وأطلال المبانى المتهالكة.. وكان أبطالها من غير المحترمين.. وقد تأثر بتلك السينما المخرج الكبير صلاح أبو سيف فكانت أفلامه الرائعة لك يوم يا ظالم والفتوة والوحش وبداية ونهاية والقاهرة 30.
ولما كان شابلن العظيم الصعلوك المتشرد الفقير الذى أثرى الوجدان وأطلق الضحكات فى تراث أفلامه الجميلة. ويظل فيلم الحرام الذى كتب قصته يوسف إدريس وأخرجه بركات، والذى صور حياة البؤس والشقاء لفلاحى مصر قبل ثورة 1952- وثيقة إنسانية صادقة لأبأس فئات الفلاحين، وهم عمال التراحيل الذين شكلوا المادة الأساسية للرواية والفيلم.
والمفارقة المدهشة أنه رغم إشادة معظم النقاد وقتها بروعة الفيلم، إلا أنهم تحفظوا على مستوى الإخراج، حيث بدا التناقض بين الموضوع وأسلوب التناول المرئى.. فتنفيذ بركات لأهم مشاهد الفيلم وهو الاعتداء على عزيزة (فاتن حمامة)، صوّر فى وضح النهار وفى هدوء شبه شاعرى.. وهو موقف يحتاج إلى قوة وعنف.. أى إن بركات انساق إلى جمال شكلى رومانسى أفقد المشهد صدقه وحرارته، وافتقد جماله الحقيقى، فأساء إلى أهمية وقيمة القضية الاجتماعية المطروحة.
■ ■ ■
فى سبعينات القرن الماضى- وكانت أصداء الزمن الجميل تفرض وجودها المؤثر على مناخ حرية التعبير، وتحتشد بقامات نقدية باسقة تحفل بتجارب شبابية إبداعية لكتاب ومخرجين طليعيين يشغلهم الهم الاجتماعى والرؤى الفكرية الجادة- قدم المخرج المبدع يوسف أبوسيف- وكان مازال طالبا بالسنة النهائية بمعهد السينما- فيلما تسجيليا مهمًّا هو هنا القاهرة، قوبل بحفاوة بالغة من النقاد الكبار وقتها وحصل على عدد كبير من الجوائز فى المهرجان السابع للأفلام التسجيلية، كما حصل على جائزة من مهرجان أوبر هازون بألمانيا، وقامت هيئة الثقافة الجماهيرية بعرض الفيلم عروضا جماهيرية فى المحافظات والقرى شهدت إقبالا جماهيريا كثيفا.
يعتمد الفيلم على بناء شيق وساخر يستند على التناقض الحاد بين محتوى شريطى الصوت والصورة.. يبدأ بمشهد يصور أتوبيسا مكتظا بكتل بشرية متلاصقة، وبعضهم تتدلى أجسادهم من بابيه.. والكاميرا تقترب من النافذة الخلفية المهشمة فتظهر الوجوه الجهمة المتوترة.. بينما شريط الصوت يذيع برنامجا صباحيا تستهله المذيعة بعبارات باصبح عليك مع الحب والخير والجمال.. عزيزى المستمع احتفظ بهدوئك دائما وأنت تواجه الصباح، فالصباح يعطى التفاؤل والأمل… امشى بخفة ودلع.. الدنيا هى الشابة وانت الجدع!!.
وينتهى الفيلم بمشهد لأطفال عرايا يسبحون فى ترعة بأحد الأحياء الشعبية الفقيرة، وإلى جوارهم جيفة سابحة لكلب نافق.. بينما شريط الصوت يذيع إعلانا عن أحدث البارفانات المستوردة التى تنعش كنسيم البحر.
والفيلم الذى لم يزد زمنه على عشر دقائق يقدم مادة صارخة صادمة، عن أحوال المجتمع ومعاناة الفقراء والتفاوت الطبقى والظلم الاجتماعى.. فى إطار كوميديا سوداء بالغة السخرية والمرارة والضحك الذى هو كالبكاء…ولم يتهم صانعه بالإساءة إلى مصر أو تقاعسه عن تقديم فيلم نظيف خال من بشاعة الفقر وقبحه، بل تم تكريمه لصدق طرحه.. وهذا هو الجمال.