مصر هويتنا العظيمة
يقول جمال حمدان: “لقد كان ظهور الحضارة هنا خطة عامدة متعمدة وضعها الجغرافي الأعظم”. وتقول الأبحاث على أن أول حضارة إنسانية هي مصر، وأول دولة سياسية وعاصمة إدارية وحكومة مركزية وجيش وطني في تاريخ الإنسانية كلها هنا في مصر عام 3200ق.م. وأول وثيقة للقانون والعدل في تاريخ البشرية هي “قانون ماعت” التي كانت تحوي على 42 مادة قانونية. وماعت في فكر المصريين القدماء تمثل الحق والعدل والنظام الكوني ويرمز لها بسيدة تعلو رأسها ريشة نعام، ومن هنا جاءت الكلمة التراثية على رأسها ريشة علامة على المقام العالي، وكانت تمسك في يديها مفتاح الحياة وصولجان الملك. وكانت تسمى أرض مصر أرض النيل وماعت.
وفي مصر كان أول إيمان بالإله الواحد الذي أخذ أشكال مختلفة ولكن جوهره الإله الواحد فتقول صلاة وجدت في أهم نصوص تحوت المعظم الذي أخترع الكتابة وقسم الزمن إلى سنين وأيام، وهو الذي أول من صنع تحديداً للشهور المصرية القديمة بعد أن رصد النجوم ودرس حركة الكون، يقول في صلاته عن الإله الواحد:
“هو الواحد الذي لا يشوبه نقص
هو الباقي دائماً خالداً أبداً
هو الذي لا تدركه الحواس
ولا المعرفة مهما عظمت
هو أعظم من أن يطلق عليه اسم أتوم
هو الخفي المتجلي في كل شيء
لا جسد له ولكنه في كل شيء
لا اسم له، هو الجوهر الكامن في كل شيء
أصل ومنبع كل شيء هو الواحد الذي ليس مثله شيء”.
ومصر صاحبة أعظم حضارة هندسية وعلمية رياضية ففي عام 2650ق.م خطط المهندس المبدع المصري “حم-أون” الهرم الأكبر بإعجاز هندسي باق إلى اليوم ومبهر عبر التاريخ، وقد استخدم في بنائه عشرون ألف عامل في مدة حدود عشرون عاماً، وقد استخدم في بناء الهرم الأكبر وحده أثنين مليون ونصف حجر يصل وزن الواحد منهم إلى ما يقرب من سبعة طن ونصف ويصل ارتفاعه إلى 146 متراً.
وكل يوم نكتشف إعجاز خفي في هذا البناء الأهم على مستوى العالم كله فقد اُكتشف أن الهرم له علاقة بالنجوم والفلك، وفي الوقت الذي كان فيه العالم يجهل كل شيء كان المصريون وصلوا في علم الطب والتشريح ما هو مذهل حتى بعد اكتشاف العلم الحديث.
ففي بردية “أدوين سميث” التي يرجع تاريخها إلى عام 1600ق.م ولكنها منسوخة من بردية تعود أصولها إلى 3000ق.م، وهي أول وثيقة طبية في العالم كتبت بواسطة الطبيب المصري “أمنحوتيب” يصف فيها ثماني وأربعين حالة جراحة مختلفة من كسر الجمجمة إلى إصابة النخاع الشوكي، وإصابات الحنجرة والرقبة، وإصابات العمود الفقري وحالات الشلل. ويحدثنا هيرودوت بأن أي طبيب في العالم يتلقى التعليم في مصر يأخذ شهادة نجاحه. وهوميروس اليوناني في الأدويسا وهي ثاني أقدم إنتاج أدبي غربي كُتبت في القرن الثامن قبل الميلاد يقول فيها: “في مصر رجال ماهرون في الطب أكثر من أي جنس بشري أخر”. فقد أسسوا علم الطب والتشريح والعقاقير والأدوية، ويكفي أن كلمة كيمياء في العالم مأخوذة من “كيمت” أي أرض مصر.
أما تأثير مصر الثقافي والأدبي على العالم والتاريخ كله يُكتب فيه مجلدات وسأذكر فقط قصتين، ففي قصة علي بابا والأربعين حرامي كانت الزلع التي أختبأ فيها الجنود للقبض على لصوص المغارة، ونرى هذه القصة في الأدب المصري القديم؛ يحكى أنه في وقت تحتمس الثالث (1425ق.م) وهو من أعظم ملوك مصر فهو الشخصية العبقرية في التاريخ العسكري والذي قال أحد المؤرخين عن مصر في عصره: “لا توجد قوة في الأرض تستطيع أن تواجه الجيش المصري الذي يقوده تحتمس الثالث” ولقبوه “أبو الإمبراطوريات” وتُدرس خططه في الأكاديميات العسكرية لأنه أول من قسم الجيش إلى قلب وجناحين.
وتقول القصة أنه وهو يطارد أعدائه تحصنوا في مدينة يافا ولم يستطع الجيش المصري من الدخول إليها، فجاءت فكرة من أحد قواد الجيش وعرضها على تحتمس الذي وافق عليها. وكانت الخدعة هي أن يرسل هذا القائد إلى حاكم يافا بعرض أن يأتي إليه بصولجان الملك وأنه سرق من الفرعون مائتي برميل مملوء من العسل والخمر وأنه انشق عن الجيش ويريد أن يأتي إليه بالصولجان والهدايا، وفرح أعداء مصر بهذا واستقبلوه مع المائتي برميل التي كان مختفي بداخلها جنود مصر المسلحين وما أن دخلوا حتى سيطروا على المدينة وفتحوا أبوابها للجيش المصري الذي كان لابد أن ينهي على عصيان تلك المدينة التي كانت تهدد مصر.
والقصة الثانية في عصر الملك “منكاورع” حفيد خوفو، كانت فتاة جميلة تستحم في بركة اللوتس التي تتوسط قصر أبيها المطل على النيل وقد خلعت حذائها الذهبي وتركته عند حافة البركة، فجاء نسر عملاق وخطف إحدى فرد الحذاء وطار بها إلى مدينة منف وسقط منه في قصر الأمير الشاب الذي سيصير ملكاً فأمسك بالحذاء وشعر بأنه توجد حكمة وراء هذا فلماذا يُسقط النسر الحذاء الجميل هذا عنده هو على وجه الخصوص وهو الذي كان يحلم بالزواج من فتاة لم يجدها إلى الآن. وطار عقل الأمير الذي أخذ يحلم بتلك الفتاة صاحبة الحذاء الذهبي، وأمر رجاله بالبحث عن صاحبة هذا الحذاء وأعلن عن مكافأة كبيرة لمن يأتي له بتلك الفتاة. وسُمع الخبر في كل مصر فجاءت وصيفة الفتاة التي كانت تدعى “رادوبي” إلى قصر الأمير ومعها فردة الحذاء الأخرى، وفرح الأمير وأخذها وذهب إلى قصر الفتاة وتقدم لخطبتها التي حلمت في تلك الليلة بأن الأمير سيأتي إليها ويجعلها ملكة على عرش مصر.
عزيزي القارئ هذه هي مصر أم الدنيا ومنارة الحضارة عبر التاريخ، وقد يهيل عليها الهمج أتربة الصحاري والقفار ولكنها في ساعة تستيقظ لتنتفض وتستعيد جمالها العظيم، أنها مصر التي قد تُجرح ولكنها لن تموت.
القمص أنجيلوس جرجس