عرفت الدكتور عاطف صدقى رئيس الوزراء الأسبق فى مرحلة مبكرة جدًا من حياتى، حيث شاءت الظروف أن ينتمى كلانا لبلد واحدة، فالدكتور عاطف هو إبن قرية “سنهرة” مركز طوخ قليوبية، المجاورة لبلدتى مدينة “قها” قليوبية. وأتاح لى هذا الظرف الفريد أن أعرفه جيدًا، وأتعامل معه عن قرب كلما جاء لزيارة بلدنا. وكان الدكتور عاطف – رحمة الله عليه – ابن بلد وشهم ومتواضع، لا يرفض مقابلة أى إنسان صغيرًا كان أم كبيرًا، ولم يحجب نفسه عن مخلوق، وإذا حضر عرفت الدنيا كلها بوجوده، وكان يحرص على زيارة قريته كل يوم جمعة، أثناء توليه الوزارة وبعدها.
جلست مع الدكتور عاطف صدقى كثيرًا، حاورته وحدثته عن كل آرائى، وكان الرجل نعم الأب الذى يستوعب ويحتوى كل أبناءه. لفت نظرى اهتمام الدكتور عاطف صدقى بمتابعة الأخبار وخاصة القضية الفلسطينية، فى وقت لم يكن الانترنت قد ظهر بعد، وبالطبع قبل ظهور التطبيقات الحديثة على الموبايلات، ومواقع التواصل الاجتماعى. زمن كان فيه التليفزيون والإذاعة ثم الصحافة المكتوبة هى المصادر الوحيدة للمعرفة.
دارت فى ذهنى هذه الخواطر لدى حديثى مع أستاذى الغالى الدكتور عصام فرج وكيل الهيئة الوطنية للصحافة والأمين العام السابق للمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، الذى شجعنى على تدوين ذكرياتى مع الدكتور عادف صدقى، والدكتور عصام فرج قيمة صحفية وقامة علمية رفيعة، وذو علم موسوعى حقيقى فى إدارة المؤسسات الصحفية، وله العديد من المراجع الموسوعية فى هذا المجال أبرزها كتابه: “إقتصاديات الإعلام” ونفدت منه ست طبعات، ويعد مرجعًا لا غنى عنه لكل دارسى الإعلام.
أعود بالحديث عن الدكتور عاطف صدقى، وأذكر أنه أثناء عملى بالتليفزيون، ووجودى داخل غرف الأخبار، حيث يتاح لى الاطلاع على الأخبار أولًا بأول من خلال برقيات وكالات الأنباء العالمية، كان الدكتور عاطف يطلب منى الإتصال به فى بيته لأقرأ له أهم الأخبار، وخاصة أخبار القضية الفلسطينية التى كان يتعاطف معها كثيرًا، ويصب جام غضبه على ممارسات شارون المتعنته، بل كان يسبه بأبشع الألفاظ، وأذكر أننى اضطررت فى أحد الأيام للاتصال به كل ربع أو نصف ساعة على التليفون الأرضى – وقبل ظهور الموبايل – لإبلاغه بأهم الأخبار.
كان الدكتور عاطف صدقى من المسئولين الذين يندر أن تجد مثيلا لهم فى اهتمامهم بالصحافة وتقديرهم لدورها والعاملين بها.
عندما قرر الرئيس مبارك إجراء تغيير وزارى كلف فيه الدكتور كمال الجنزورى بتشكيل الوزارة الجديدة يوم 4 يناير 1996 خلفًا لوزارة الدكتور عاطف صدقى، طلب منى الأستاذ سمير رجب رئيس مجلس الإدارة ورئيس تحرير “المساء” – فى ذلك الوقت – إجراء حديث مع الدكتور عاطف صدقى ومجموعة الوزراء الذين خرجوا فى التغيير الوزارى، وفى صباح السادس من يناير جاءنى صوت الدكتور عاطف عبر التليفون متحدثًا عن تجربة السنوات العشرة فى رئاسته للحكومة، والشئ العجيب أننى فوجئت به يناقشنى ويبدى رأيه مثنيًا على سلسلة الحوارات الوثائقية التى كنت قد بدأتها اعتبارًا من عام 1994، مع عدد من الشخصيات وخاصة حوارى مع السيد محمد حافظ إسماعيل مستشار الرئيس السادات للأمن القومى، وأحد صناع عبور أكتوبر 1973.
تعجبت بشدة من هذه المتابعة الدقيقة لدى الدكتور عاطف رغم شواغله الكثيرة. فأوضح أن قراءة الصحف عادة متأصلة لديه منذ زمن، وأنه يحرص على قراءة كل الصحف لأنه مهتم بدورها.
واستمرت هذه العادة مع الدكتور عادف صدقى حتى بعد خروجه من الوزارة وتوليه مسئولية الإشراف على المجالس القومية المتخصصة، وأذكر أننى نشرت ذات يوم رأيًا لأحد رؤساء الجامعات السابقين ينتقد فيه هذه المجالس وعدم فاعلية دورها، وفوجئت بالدكتور عاطف صدقى يتصل بى معاتبًا على نشر هذا الكلام دون الرجوع للمجالس القومية لسؤال العاملين بها عما يقومون به، وظل الدكتور عاطف صدقى “واخد على خاطره” منى لفترة، ويذكرنى بهذا الحديث الذى نشرته، حتى عادت الأمور لمجاريها.
كان الدكتور عاىطف صدقى دائم السؤال عن أحوال المؤسسات الصحفية، ومتابعًا لإصداراتها، وأذكر أننى كلما زرته فى مكتبه بالمجالس القومية، أفاجأ به يأخذ منى حقيبتى، وينظر بداخلها، قائلًا: أنت معاك جرائد إيه؟ ثم يلمح إحدى المجلات، فيدخل يده فى الحقيبة – بعشم وأبوة ومحبة حقيقية – ويلتقطها من وسط الصحف، حيث كان يعجبه غلافها، ويقول لى: إيه ده؟ ده “فلان” شكله مدلعكم قوى. ثم ننفجر فى الضحك.
فى إحدى زياراتى له، سألنى عن الأحوال المالية للمؤسسات، خاصة أنه بدأ يتردد وقتها حديث عن “هدايا المؤسسات” التى تمنحها بعض قياداتها لعدد من الشخصيات العامة، الأمر الذى أُعتبر فيما بعد إهدارًا للمال العام.
– آثرت أن أبدأ إجابتى بطريقة غير تقليدية، وقلت: كانت هناك صحيفة إسمها “الجمهور المصرى” لصاحبها أبو الخير نجيب، وصدرت لمدة 3 سنوات من 1951 إلى 1954.
– قاطعنى الدكتور عاطف صدقى قائلًا: أعرفها جيدًا.
– قلت: أثناء دراستى للصحافة بكلية الإعلام جامعة القاهرة، كنت أجرى بحثًا عن هذه الصحيفة، ولفت نظرى ما نشرته من متابعات عن عيد ميلاد الملك فاروق، وما تم تقديمه للمدعوين.. وبعد أكثر من خمسين عامًا، وعندما نقارن بين مراسم الاحتفال بعيد ميلاد الملك فاروق، وما فعلته مؤسسة “…” فى عيد ميلاد رئيس مجلس إدارتها، حيث تم توزيع الهدايا والسيارات والمشغولات الذهبية، نكتشف أن الملك فاروق كان “غلبان قوى” مقارنة بما يفعله رئيس هذه المؤسسة الصحفية حاليًا.
ضحك الدكتور عاطف صدقى، ووافق على ما قلته، وعاد بالذاكرة إلى الفترة التى تولى فيها رئاسة الجهاز المركزى للمحاسبات، قبل رئاسة الوزارة مباشرة، وأوضح أن كثير من التقارير التى رصد فيها الجهاز ملاحظاته على الأداء المالى للمؤسسات كان يتم تجاهلها، استنادا للنفوذ الذى كانت تحظى به قيادات المؤسسات فى ذلك الزمن، رغم كونها تحمل ملاحظات خطيرة ما كان يصح تغافلها.
سنوات كثيرة مضت على لقاءاتى مع الدكتور عاطف صدقى، تحمل ذكريات غالية لن تسقط أبدًا من الذاكرة، حتى كان آخر لقاء معه قبل وفاته بخمسة أيام فى شهر فبراير 2005، ولعل هذا يكون محور حديث آخر.