بالنسبة لجيلنا، لا يوجد لفيلم أجنبى (الأغلب فيلم أمريكى) من صيت قدر «الهروب الكبير»، الذى حكى قصة قيام خمسين من أسرى الحرب، فى أحد السجون الألمانية، فى الحرب العالمية الثانية، بالهرب من خلال أنفاق قاموا بحفرها، وانطلقوا بوسائل نقل متنوعة مطارَدين من قِبَل القوات الألمانية حتى جرى القبض عليهم وإعدامهم.
القصة حقيقية، وحينما وردت فى كتب التاريخ استغرقت سطرين جاء فيهما حالة الهرب والعدد والإعدام؛ ولكنها حينما وُلدت على شاشات السينما فى فيلم من إخراج «جون ستوريج» فإنها ضمت عددًا كبيرًا من نجوم العصر، كان فى المقدمة منهم «ستيف ماكوين» و«جيمس جارنر» و«ريتشارد أتينبرو»، وهو تقليد تكرر كثيرًا فيما بعد.
وبينما كان الأصل أن تقوم به مجموعة من الجنود البريطانيين ودول الكومنويلث، فإنه صار فيلمًا أمريكيًا قحًا فى القيادة والتخطيط، فلم يكن الأمريكيون ليسمحوا بمشاركة البطولة من قِبَل أطراف حليفة أخرى. على أى حال، وخلال الأسابيع الماضية، فإن خيال الفيلم لم يفارقنى إبان التقارير التى توالت حول هروب ستة من الفلسطينيين الأسرى فى سجن إسرائيلى عتيد؛ وبعد ذلك ما حدث من عمليات المطاردة من قِبَل القوات الإسرائيلية، ثم ما جرى من القبض على الهاربين، ولم يتبقَّ من فصول الفيلم التاريخى إلا انتظار ما سوف يصل إليه الأسرى السابقون من مصير.
الواقعة فى حد ذاتها سوف تأخذ مسارها التاريخى فى كتب التاريخ، وربما سوف يقف أمام سطورها القليلة أحد المنتجين والمخرجين لكى يحكى ما جرى فيها من تفاصيل بعد أن تتجلى أسرارها، فالقصة فى كل الأحوال سوف تكون فيها الإثارة العميقة المتولدة من عمليات التخطيط والملاحقة؛ ولكنه سوف يكون فيها قدر كبير من البطولة التى ظهرت على الجانب الفلسطينى كما لو كانت تعبر عن مولد «الانتفاضة الثالثة».
وعلى الجانب الإسرائيلى فإن النجاح الأخير أنقذ الحكومة الإسرائيلية من التفتيت، بعد فترة من التوتر بدَت فيها المهمة مستحيلة عندما ذاع أن آخر اثنين من الأسرى استقرا فى مخيم جنين المسلح، ما كان من الممكن أن يقود إلى صدام مسلح، أو مذبحة. ولكن ما حدث أن الأسيرين استقرا فى مبنى خارج المخيم، ولم يستعملا سلاحًا ساعة القبض عليهما.
الدرس فى واقعة «الهروب الكبير» أثناء الحرب العالمية الثانية هو أنه مهما بدا من تجبر المحتل النازى، فإن صلابة المقاتلين المقاومين لم تفتر، ولا كان الخلاص منهم بالإعدام نهاية الحرب والصراع. إن «الهروب» الحقيقى هذه المرة واقع على الجانب الإسرائيلى من الحقيقة التاريخية التى تقول إنه فى هذه النوعية من «الحروب الأبدية» لا يوجد انتصار، وإنما كثرة من الخاسرين.
وإذا كان الزمن سوف يصير حَكمًا فإنه لن يكون فى صالح المحتل لأن حقائق قوة الجغرافيا والديمغرافيا سوف تعبر عن نفسها دائمًا فى النهاية. ما على إسرائيل أن تستخلصه من الواقعة أنها- وقد حققت لنفسها قبولًا بالسلام والتعاون مع دول عربية سواء بالاتفاق الإبراهيمى أو ما سبقه من اتفاقيات- آن الأوان أن تأخذ من واقعة الأسرى وهروبهم، وحتى استسلامهم فيما بعد، إشارة إلى أن القبول الفلسطينى بالجوار مع إسرائيل سوف يظل هو الفيصل فى بقاء الدولة الإسرائيلية.
وإذا كان الفلسطينيون يعانون الآن الانقسام، وغياب الرؤية، فإن الإسرائيليين أيضًا يعانون ذات التفتيت والانشقاق فى الداخل، ومعاداة السامية فى الخارج. وحتى وقت قريب فإن معاداة السامية أصبحت معاداة العرب والمسلمين، ولكن الحوادث العنصرية التى جرت فى الولايات المتحدة مؤخرًا أخذت مع معاداة الأصول الإفريقية معاداة اليهود أيضًا. ولم يختلف الأمر كثيرًا عن ذلك فى الدول الأوروبية، التى تحولت نحو اليمين المتطرف ومعاداة الأجانب والمهاجرين من العرب والمسلمين، وهذه استعادت الكثير من تقاليد معاداة اليهود، التى ظن كثيرون أنها انتهت مع الحرب العالمية الثانية.
«الهروب الكبير» من الأسرى الفلسطينيين كان إشارة سبقتها إشارات أثناء حرب غزة الرابعة، التى لم تتضمن تدمير غزة وحدها، ولكنها كانت مُهدِّدة للجنوب الإسرائيلى ومناطق أخرى فى إسرائيل، وربما كان التهديد الأكبر قادمًا داخل المدن الإسرائيلية، التى تضم عربًا وإسرائيليين من الهوة الواسعة والانكشاف الكبير للتعايش بين الطرفين نتيجة استمرار الصراع الفلسطينى الإسرائيلى.
وأيًا كانت مشاعر البطولة المتولدة عن الهروب من قِبَل الطرفين سواء بسبب القدرة على اختراق الحواجز الأمنية الإسرائيلية، أو القدرة على الملاحقة حتى الإمساك بجميع الأسرى، فإن البطولة الحقيقية سوف تكون كامنة فى عملية سلام قائم على دولتين، أو حتى دولة واحدة، يحظى فيها الجميع بحقوق متساوية.