من محبة إلهي أني التصقت بقداسة مثلث الرحمات البابا شنوده الثالث.. العشرة أيام الأخيرة من حياته على الأرض.. فقد وصف له طبيبه المُشرف على حالته الصحية، أن يبدأ جلسات العلاج الطبيعي، بعد حقن ظهره لتقليل الألم، ومساعدة عضلاته التي ضمرت تقريبًا من شدة الأمراض وقسوة العلاج لفترات طويلة.
كان البابا بالنسبة لي مثلنا جميعًا، نراه من بعيد شخصًا فريدًا يجمع مجموعة من المتضادات الظاهرية.. فهو لطيف وحازم معًا، وهو ضعيف الجسد قوي الشكيمة، وهو فجول ومقاتل، محب للوحدة وبارع في التواصل.
ولكن حينما رأيته.. رأيت فوق ما كنت أرسمه في خيالي بكثير.. رأيت البابا من جانب آخر، أظن أن قليلين يعرفوه عن قداسته.. فقد رأيت إنسانًا رفيعًا ومبتهجًا وخاضعًا بطريقة مختلفة عن كثيرين.. فهو حقًا روح، لولا أنها اتحدت بجسد لظننا أنه من ملائكة السماء.. فهو..
(1) إنسانًا رفيعًا:
يحمل حبًا مختلفًا، وقلبًا مختلفًا، ومشاعر مختلفة.. طوال الوقت الذي كنت أقضيه مع قداسته كان لا يكف عن كلمات الشكر لي!! مثل: “أنا مكسوف منك، المفروض نرحب بك مش نتعبك، أنا عارف إن وقتك ثمين…”. والعجيب مَنْ يقول لمَنْ هذا؟! بطريرك الكنيسة يقول لأحد أحفاده الذي لا يستحق أن يلمس جسده الطاهر!!
فرأيت رقة المسيح الذي يشعر بالكل، وتعود أن يخدم لا يُخدم.. ففيه رأينا كما قيل عنه: “أبوه إبراهيم، وطاعة إسحق، ورئاسة يعقوب، ومُلك يوسف، وقيادة موسى، ونصر يشوع، ومسحة صموئيل، وشاعرية داود، وحكمة سليمان، وقوة إيليا، ونعمة أليشع، ونبوة إشعياء…”. حقًا كنت يا قداسة البابا.. إنسانًا رفيعًا نادر التكرار.
(2) إنساناً مبتهجًا:
قرأت كثيرًا وسمعت أكثر عن الفرح، وفرحين في الضيق، وافرحوا كل حين.. لكني لم أرى إنسانًا يحمل كل هذه الأمراض، مع السن والألم، مع هموم الخدمة والكنيسة.. ويشع كل هذا الفرح.
فمن المعروف وكما درست وكما رأيت في عملي أن المريض في هذه المراحل من المرض ومن الحياة!! يردد كلمات الاكتئاب والقلق الذي قد يصل إلى الحزن والخوف.. ولكن العجيب مع قداسته رأيت روح الدعابة الشهيرة عنه لا تفارقه، وأرى إنسانًا يتنفس بصعوبة بالغة ويتحرك بمجهود كبير وألم مُضني ويداعب كل مَنْ حوله ويضحك ضحكته الشهيرة المملوءة طفولة سماوية.
حقًا يا قداسة البابا كما علمتنا:
يا إلهي أنت عوني. أنت حصنيأنت ربي أنا أحيا في حِماك
فيك ما يشبع قلبي دائمًاإيه ربي متعة القلب رضاك
حقًا كما علمتنا ورأينا فيك.. الذي يملأ الله قلبه لا مكان لخوف أو حزن أو قلق أو كراهية أو….
(3) إنسانًا خاضعًا:
عندما قابلت قداسة البابا أول مرة للعلاج كنت متوقع طريقة تعامل من أعلى (قداسته) لأسفل (لي)، هو الذي سوف يوجه اللقاء، ويقبل أو يرفض ما يرى.. ولكن وجدت إنسانًا خاضعًا بالحق، لم ينادي أحدٍ أنا أو أي مَنْ حوله بدون لقب اسمه أولاً.
كنت أعطي النصيحة الطبية.. فلا أسمع منه غير “حاضر، تحت أمرك..”، في ذهول شديد مني لكل هذا الخضوع والاتضاع.
فحقًا عشرة المسيح تصبغ الإنسان صبغة لا تُمحى رغم كل الصعاب.
كان قداسته متألمًا جداً قبل النياحة بأربع أيام، وصممت أن يقوم من السرير ويمشي والأكسجين في أنفه بضع خطوات.. فبكل طاعة وتحمّل قام وتحامل على نفسه ونفذ أوامر الطبيب!!
حقًا يا سيدنا.. كنت ضيفًا من السماء.. روحًا قوية حتى بعد أن ذبل الجسد.. كنت مثالاً حيًا فريدًا في حبك للمسيح.. كنت تحيا ما تعلّم به وأكثر!!
نودعك ونحن نثق أن “الفَاهِمونَ يَضيئونَ كَضياءِ الجَلَدِ، وَالّذينَ رَدّوا كَثيرينَ إلَى البِرّ كالكَواكِبِ إلَى أبدِ الدُّهور” (دانيال 12: 3).
فأنا تعلمت من لقاؤك خلال العشرة أيام الأخيرة لك على الأرض الكثير والذي يصعب وصفه، ولكني أشكرك أنك سمحت لي بهذه البركة التي لا أستحقها..
د.اشرف بسكالس