فاطمة ناعوت تكتب عن سؤال مفخخ
أولًا: التعبير: «اكتُبْ برقيةً إلى عمِّك تُهنئه بسلامة الوصول من أداء فريضة الحج» «إجبارى». ورد هذا السؤالُ فى امتحان الفصل الدراسى الأول للصف السادس الابتدائى لعام 2022 /2023. وضجّت صفحاتُ «فيس بوك» استنكارًا لهذا السؤال الطائفى الذى لم يراعِ وجود تلاميذ مسيحيين من بين الممتحنين. والحقيقة أن السؤال فى تقديرى ينطوى على حزمة من الإشكاليات و«الفِخاخ» غير التربوية يجب التوقف عندها. وعزاؤنا أن مثل تلك اللمحات الطائفية فى منظومة التعليم هى آخر بقايا التعليم القديم التى سوف تختفى بإذن الله مع دخول أبنائنا العام القادم الصفَّ السادس الابتدائى فى مناهج التعليم الجديدة الجميلة المثقفة، التى بدأت منذ خمس سنوات فى جمهوريتنا الجديدة، والتى وضع ملامحها د. «طارق شوقى» وزير التعليم السابق، ويحمل مِشعلها الآن د. «رضا حجازى» وزير التعليم الحالى.
من بين تلك الإشكاليات والفخاخ التى توقفتُ عندها فى السؤال السابق، ما يلى:
١– إشكاليةٌ طائفية. إذ إن واضعَ السؤال لم يحترم مبدأ «التعددية»، وأهدر مبدأ «المواطَنة» الذى هو نهج «الجمهورية الجديدة» والدولة المدنية التى تظلّلنا اليوم دون تمييز. إذ تغافل واضعُ السؤال عن وجود طلاب مسيحيين من بين الممتحنين. ورغم أنه امتحان «مادة لغة عربية»، وليس مادة دين أو مقارنة أديان، إلا أن واضعَ الامتحان وضع سؤالا من شأنه أن يؤجج «المُختلفات» بين العقائد، بدلا من أن يُكرّس «المشتركات» بين الأديان وهى كثيرة وغنيّة، وهذا ما يجب أن نؤكد عليه: «إن ما يجمعنا أكثرُ وأغنى مما يفرقنا». وفضح هذا التوجّه إصرارُه على أن يجعل هذا السؤال «إجباريًّا» وليس اختياريًّا. وكان بوسع السؤال أن يطلب من الطالب كتابة برقية تهنئة بفوز العمّ بجائزة الدولة فى العلوم أو الآداب، أو لاكتشافه دواءً جديدًا لمرض عضال، أو ابتكاره اختراعًا يفيد البشرية، أو رجوعه سالمًا إلى أرض الوطن بعد معركة شريفة من أجل الوطن، أو مئات الموضوعات الأُخر المُستلَّة من نسيج مِظلّة الإنسانية الواسعة، بعيدًا عن العنصريات الضيقة التى تثيرُ المرارةَ فى النفس والشعور بالتمييز والفرز الطائفى.
٢– إشكالية تمييزية. واضعُ هذا السؤال الطائفى يمنح الطالبَ المسلمَ درجاتٍ مسبقًا لن ينالها زميلُه الطالبُ المسيحىُّ. فالطالبُ المسلمُ سيكون قادرًا على التعبير على نحو أبلغ وأجمل وأكمل من الطالب المسيحى؛ لأن حصيلته المعرفية من واقع الخبرة والمشاهدات تتيح له الدراية بطقوس الحجّ إلى بيت الله الحرام وأدبيات الاحتفال به، على عكس زميله المسيحى الذى سوف يكتب من خلال القليل مما يتسقّط فى ذاكرته من خبرات الجيران والأفلام، فتكون قدرته التعبيرية ضعيفة وغير واقعية ومجرد حشو لغوى ركيك.
٣– إشكالية تفخيخية.. لأن الطالبَ المسيحى من السهل أن يصوغَ كلماتِه من لدن معجمه الفطرى اليومى المعتاد عليه مثل: (مبروك نعمة الرب عليك. أو حمدًا للرب على سلامة الوصول… إلخ)، وبالتأكيد قد ينسى كتابة «عليه الصلاة والسلام» بعد كلمة «النبى» كما اعتدنا نحن المسلمين أن نفعل؛ فيقعُ فى المحظور وتثور حفيظةُ المصحح (الذى قد لا يقلُّ طائفية وتعصبًا عن واضع الامتحان)، وقد يعاقبه بالرسوب أو بحذف درجات قد استحقها فى مجمل الامتحان.
٤– إشكالية أخلاقية.. فالسيدُ واضعُ هذا السؤال يحضُّ الطالبَ المسيحى على النفاق. فكلما كان الطالبُ المسيحىُّ منافقًا وكتب وأسهب وجامل وداهن فيما لا يعرف ولا يعتقد، زادت حصيلتُه من الدرجات. ولو افترضنا أن طالبًا مسيحيًّا صادقًا أمينًا قد كتب: «إن عمى مسيحييٌّ، فكيف له أن يؤدى فريضة الحج إلى الحجاز؟!»، ألن يرسُبَ هذا الطالبُ عقابًا على صدقه وعدم نفاقه؟!
٥– إشكالية تكسير الإبداع. لو افترضنا أن طالبًا مسيحيًّا موهوبًا قد فكّر «خارج الصندوق» وسمح لخياله بالجموح و«ركب حصان خياله»، كما كتب عمّنا الشاعر الكبير «سيد حجاب» فى أغنيته الجميلة التى غنّاها الفنان «محمود عبدالعزيز» فى فيلم «الكيت كات» للمخرج العبقرى «داود عبدالسيد» عن قصة «مالك الحزين» للعظيم «إبراهيم أصلان»، فكتب هذا الطالبُ ذو الخيال الجامح موضوع التعبير عن عمه «بطرس»، الذى عاد من أداء الحج إلى «كنيسة القيامة» فى «القدس الشريف»؛ مُستغلا أن السؤال لم يحدد مكان الحج، بل كتب «فريضة الحج» دون تخصيص. تُرى ما موقف هذا الطالب المبدع من الدرجات والتصحيح؟.. بل ما موقفه أصلا من النجاح والرسوب؟! أترك لكم تخيّل مصير إبداع هذا الطالب الذكى!.
يا دولة المواطنة، يا دستور بلادنا، يا وزير التعليم، يا الله العادل العدلُ، نلوذ بكم من فِخاخِ الأسئلة.
«الدينُ لله.. والوطنُ لمَن يحبَون الوطنَ ويجمعون ولا يفرّقون».