• 22 نوفمبر، 2024

رئيس التحرير

ناجي وليم

أضيئوا بالحب قلوبكم

مرَّ «عيدُ الحبِّ» على قلوبنا متزامنًا مع طقسٍ قارسِ البرودة، لعلّنا نتذكّر أن المحبةَ هى المنحةُ الربانية التى وهبنا اللهُ القدرةَ عليها لكى نحيا. فالحبُّ صُنوُ الحياة وخصيمُ العدم. لولاه ما استطعنا مواصلةَ الحياة بكل مشاقّها وعسرها.

الحبُّ يُضاعِف لحظات الفرح، ويُقلِّصُ أوقات الوجع. وحدهم العارفون يعرفون أن الحبَّ هو المِظلّةُ الإنسانيةُ الشاسعة التى أرخاها اللهُ على البشرية حتى تحمى الكونَ من المحن والنوازل. لولا الحبّ ما أنقذ إنسانٌ إنسانًا وقع فى بئرٍ أو سقطت عليه بنايةٌ فى زلزال.

لولا الحبّ ما طبّبَ طبيب مرضاه، ولا ساعد غنى فقيرًا، ولا سهرتْ أمّ على أبنائها حتى يكسروا شرنقة الطفولة ويحلّقوا فى رحاب الصبا والشباب.

قبل عشر سنوات حضرتُ مهرجانًا عنوانه «حَبّة حُب». كنّا فى زمن الإخوان التعس الحاشد بالبغضة والفُرقة والشتات، خُيّل لى أننا «نشحذُ» الحبَّ ونتسوّله. «حبّة حُبٍّ.. لله»، على نهج: «حبّة سكر.. لله!»، كأنها دعوةٌ لأن «نحبّ اللهَ أكثر»، لكى «نحبَّ البشر أكثر».

فلا شكَّ عندى أن عزوفنا عن حبّ بعضنا البعض، وعدم اهتمامنا بمساعدة المحتاجين، يشيرُ بإصبع حزين وواثق، إلى عزوفنا عن حبّ الله جلّ وتعالى، ويُشيرُ كذلك إلى حاجتنا إلى تقديم أوراق اعتماد إيمانية جديدة تنقذنا من الهلاك.

فلو أحببنا اللهَ، أحببنا جميع خلق الله، وما بات جائعٌ جائعًا، ولا حزينٌ جنَّ عليه الليلُ وهو حزين. أُقيم مهرجان: «حبّة حب» فى ساحة مدرسة «دى لاسال» بالظاهر، وكانت سيمفونية خيرية حاشدة بالجمال والحب، اجتمع فيها أهل مصر للتبرع لصالح عمليتى «قلب مفتوح» لطفلين مريضين، مسلم ومسيحى، يجريهما «ملك القلوب» السير «مجدى يعقوب».

لهذا يقولُ، مَن أسميتُ ابنى على اسمِه: «عُمر ابن الفارض»، عميدُ شعراء المتصوفة، أو «سلطانُ العاشقين، إمامُ المُحبّين»، كما يُطلق عليه العارفون: «أضيئوا بالحُبِّ قُلوبَكم/ ْإنَّ القلوبَ حين تُحبُّ تُضاءُ/ وقولوا لمن تُـحبّون سَلامًا/ فقولُ المُحبِّ للمُحبِّ شفاءُ/ الناسُ موتى فى هجرهم/ وأهلُ المحبّة فى حُبّهم أحياءُ».

وصدقَ السلطانُ «عمر»، فالحبُّ نورٌ ربّانى سماوى يضىء القلوبَ ويُعمّرها بالسلام والفرح. فلا تجعلوه يومًا واحدًا فى العام ١٤ فبراير، ولا تقصروه على حبّ «آدم وحواء»، بل أسبلوه على أيام السنة جميعها، وأفردوا مظلته على جميع الناس، دون تمييز. دعونا لا نسمح بأن يزورنا «عيد الحب» وقلوبنا شاغرة من الحب.

لا تتركوه يحلَّ ويمضى قبل أن نُشعل الشمعةَ التى تكاد تذوى ويخبو وهجُها.

فقلوبنا خُلقت فقط لكى تخفق بالحب، فلا تُميتوها بالركون والركود واللامبالاة. أحبّوا جميع الناس دون استثناء، ودون شرط، ودون مصلحة، ودون حتى انتظار مقابلة الحب بمثله. أحبوا حتى أعداءكم، يصفو لكم وجه الحياة وتبتسم الدنيا فى وجوهكم.

فالحبُّ فى ذاته «غاية»، لا «وسيلة» للوصول إلى شىء ما، أحبّوا تصحّوا.

وأما عن اختيار ١٤ فبراير عيدًا الحب، أو ما نُطلق عليه «فالنتين» فتعددت الرواياتُ. منها أن ذلك اليوم، منتصف شهر فبراير ذى الثمانية وعشرين يومًا، هو بداية فصل الربيع عند قدامى الرومان. حيث مهرجانُ الخصب والنقاء.

يكنسون فيه البيوتَ وينثرون بأركانها القمحَ والمِلحَ. ثم يذهبُ الكهنةُ إلى الكهف المقدس، حيث كان الطفلان: روميلوس وريميس، مؤسِسا الدولة الرومانية، يعيشان تحت رعاية «أنثى ذئب».

يذبحون القرابين: عنزةً، رمزًا «للخصوبة»، وكلبًا، رمزًا «للنقاء والوفاء». ثم يُقطّعون جلدَ العنزة شرائحَ صغيرةً يغمسونها فى الدم، يجوبُ بها الأولادُ الطرقاتِ ليمسحوا وجوهَ النساء، والحقول، فيعمُّ الخصبُ: إنجابًا، ومحاصيلَ.

وعند المساء، تُلقى الفتياتُ أسماءهن فى جَرّة، ليأتى شبابُ الرومان يلتقطُ كلٌّ ورقةً، فيتزوجُ صاحبتَها. كان هذا قبل الميلاد. أما الروايات الأحدث فتقول إن قدّيسًا اسمه «فالنتين» Valentine عاش فى عهد الإمبراطور «كلاوديس»، الذى جَرّم الزواجَ، إيمانًا بأن الزواجَ يُضعفُ لياقة الجُنْد القتالية. لكن القديسَ الطيبَ رأى ذلك القانونَ مُجحفًا وغيرَ شرعىّ، فراح، متحدّيًّا الإمبراطور، يزوّجُ العاشقين فى كنيسته سِرًّا. ولما اِكتُشفَ أمرُه أُعدم فى منتصف فبراير.

فصارَ أيقونةً للمحبّين. ومن بين الروايات كذلك أنه فى العصر الوسيط آمنتْ إنجلترا وفرنسا أن منتصف فبراير هو بداية موسم تزاوج الطيور، ولذا غدا سِمةً للرومانسية، يتبادلُ فيه العشاقُ والأصدقاء بطاقاتِ التهنئة والهدايا.

وترقدُ لليوم، فى مكتبة لندن، أقدمُ تهنئة فى التاريخ، من «تشارلز»، دوق أورليانز، لزوجته حين كان سجينا فى برج لندن فى القرن الـ ١٥. وتقول الإحصاءاتُ إن عيد الفالنتين هو ثانى أكبر عيد عالميًّا تُتبادل فيه التهانى. إذْ فى أمريكا وحدها يُوزَّعُ بليون كارت فى هذا اليوم.

تحملُ الكروتُ قلوبًا حمراءَ وورودًا، وصورةَ كيوبيد، حاملا قوسَه وسهامَه. يقول رالف إميرسون فى كتابه «الجمالُ مُفعِّلُ الحياة»: «الحبُّ يُعلى من طاقة الموهبة، وبه نتغلبُ على العثرات».

أحبِّوا، تَصِحّوا.

د. فاطمة ناعوت

 

 

المقال السابق

نحن علماء المصريات نتحدث اليكم

المقال التالي

شيشة زويل

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *