مأساة الطفل شنودة
قصة الطفل شنودة فاروق التي أثارت جدلًا واسعًا في مصر أخيرًا، نموذج من صراع الأفكار الرجعية ضد حقوق المواطنة، بغض النظر عن المصلحة الفضلى للطفل، بما توجبه من إعلاء القيم الإنسانية والدستورية، متمثلة بالمساواة وعدم التمييز الديني، والنشأة في بيئة صحية تجعل منه مواطنًا صالحًا. لا تزال الأسرة التي قامت بتبني الطفل تطرُق مختلف الأبواب القانونية والإدارية والإعلامية، لعلها تجد آذانًا صاغية تستجيب لمطلبها بعودة الطفل الذي وجدته داخل إحدى كنائس القاهرة إليها، بأية ضمانات تضعها مؤسسات الدولة.
اعتبر فاروق بولس وزوجته الرضيعَ (المجهولَ النسب)، الذي وجداه داخل حمام إحدى الكنائس، هدية واستجابة من الله لصلواتهما. فاتفقا مع كاهن الكنيسة على تربيته، لأنهما محرومان الإنجاب. ومن أجل تسهيل حصول الطفل على الخدمات الصحية والتعليمية، أو خوفًا من وضعه في دار رعاية، ارتكبت الأسرة مخالفة قانونية عندما سجلت الطفل باسمها في الأوراق الرسمية. ويظهر أم رغبة أم الطفل الحقيقية في أن ينشأ طفلها -حتى ولو بعيدًا عنها- في بيئة مسيحية، وإلا كانت قد تركته في أي مكان خارج الكنيسة.
بعد أربع سنوات، ونتيجة خلافات أسرية حول الميراث المنتظر، حررت ابنة شقيقة الزوج محضرًا اتهمت فيه الأسرة بخطف الطفل. قامت النيابة العامة بالتحقيق، وتفهمت ملابسات قصة الطفل، فلم توجه إلى الزوجين اتهامات لافتراض حسن النية، وأخلت سبيلهما، لكنها أمرت بإيداع الطفل في دار رعاية قبل استكمال التحقيقات، إلى حين الوصول إلى الأبوَين الحقيقيَّين للطفل، أو الاستماع إلى شهود الواقعة. هنا تدخلت وزارة التضامن الاجتماعي في خطوة سريعة، وغيرت اسم الطفل إلى يوسف بدلًا من شنودة، وغيرت ديانته إلى الإسلام بدلًا من المسيحية.
وجدت القصة الحزينة صدًى إعلاميًّا في ظل التضامن مع الطفل، ودعم مَطالب عديد من منظمات المرأة، لرجوع الطفل إلى الأسرة التي تبنته، أو على أقل تقدير تشكيل لجنة مكونة من المجلس القومي للأمومة والطفولة والمجلس القومي للمرأة وعدد من الخبراء النفسيين والاجتماعيين، لدراسة حالة الطفل النفسية والاجتماعية، واتخاذ ما يصب في مصلحة الطفل، لكن الجهات الرسمية لم تستجب لهذه المطالب حتى الآن.
استندت الخطوة التي اتخذتها وزارة التضامن الاجتماعي لتغيير ديانة الطفل، إلى ما يُعرف بإسلام الطفل المجهول الهوية بالفطرة، وهو أمر ليس له سند دستوري أو قانوني؛ إذ لا يوجد نص محدد في هذا الشأن، وإنما مجرد تأويلات محافِظة تعكس رؤية القائمين على تطبيق القانون. فالمادة الثانية من قانون الجنسية تضمنت أن كل طفل أبوه مجهول الجنسية أو لا جنسية له، يولد في مصر من أم مصرية، يُمنح الجنسية المصرية، في حين لم يرد أي نص قانوني بشأن ديانة الطفل المجهول الهوية. هذا التأويل قائم على المادة الثانية من الدستور: “الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع”. وطبقًا للشريعة الإسلامية، يولد الإنسان مسلمًا على الفطرة، ثم يهوِّده أو يجعله أبَواه مسيحيًا.
يتعارض هذا التأويل مع نص دستوري آخر صريح وواضح، حيث تنص المادة 53 من الدستور على: “المواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون في الحقوق والحريات والواجبات العامة، لا تمييز بينهم بسبب الدين، أو العقيدة…”.
بطبيعة الحال، هذه القضية لها عدة أبعاد تتشابك وتتداخل فيما بينها، ويُفترض فيها ألَّا يطغى أحدها على الآخر. ذكرنا الجانب القانوني وكيفية تسويته، والجانب الديني الذي وجد له أنصارًا، اعتبروا أن كل إنسان هو مسلم إلى أن يثبت العكس بأوراق رسمية. لكن، هناك أبعاد أخرى للقضية كان يجب أن تحظَى بالأهمية جرى تجاهلها، منها المصلحة الفضلى للطفل، وهي واجب والتزام على مؤسسات الدولة.
نصت المادة الثالثة من اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الطفل، البند 1، على أنه: “في جميع الإجراءات المتعلقة بالأطفال… يولَى الاعتبار الأول لمصالح الطفل الفضلى”. وتحمي الاتفاقية حق الطفل في الحياة الأسرية (المادة 16)، بالمفهوم الواسع الذي يشمل الوالدَين البيولوجيَّين أو المتبنِّيَين أو الكفيلَين (المادة 5). وعند تقييم مصالح الطفل وتحديدها، ينبغي مراعاة حماية الطفل وسلامته والرعاية العاطفية له، ومدى توفير الحاجات الأساسية والحفاظ على كرامته الإنسانية، وصولًا إلى إدماجه في المجتمع.
أيضًا تناولت المادة 80 من الدستور المصري إعلاء المصلحة الفضلى للطفل والرعاية الأسرية البديلة له، فنصت على أنه: “تعمل الدولة على تحقيق المصلحة الفضلى للطفل في كافة الإجراءات التي تتخذ حياله”. ليس من مصلحة أي طفل أن يلصق به وبتاريخ حياته أنه “لقيط” ومجهول النسب، وليس من مصلحة أي طفل أن يُربى داخل دار رعاية محرومًا أغلب حقوقه، وهو ما يؤثر بطبيعة الحال في جميع مناحي حياته في المستقبل، من تعليم وزواج ووضع اجتماعي وفرص للترقي، فهذا الاختيار التعيس سيظل لصيقًا بهذا الشخص مدى حياته.
مؤسسات الدولة مطالَبة بخطوات تصحيحية: أولًا- عودة الطفل إلى الأسرة التي تبنته، والتي ستوفر له كل سبل الرعاية والحماية والتعليم، خصوصًا أن التبني ليس محرّمًا في المسيحية، والدستور المصري تضمَّن في مادته الثالثة أن مبادئ شرائع المصريين من المسيحيين واليهود هي المصدر الرئيسي للتشريع في أحوالهم الشخصية. ثانيًا- أن يتضمن مشروع قانون الأحوال الشخصية للمسيحيين المزمع إحالته من الحكومة إلى البرلمان، بابًا عن التبني يسد الذرائع، وينظم عملية التبني بين المسيحيين.