أيها السَّادَة ُ الكِبارُ/ في «عيد الأم» أقولُ لكم: لن أحتفلَ به معكم/ فلا تنتظروا أن أجلبَ الهدايا كما بقية أطفال العالم/ فأنا بعيدٌ عن حضن أمى/ أيها الكبارُ/ الحقَّ أقولُ لكم/ إننى لا أعرفُ سوى هاتين العينين/ اللتين تبكيانِ الآن غيَبتى/ بعدما كانتا تُشرقانِ بالفرْحِ/ كلّما ركضتُ نحوهما/ عينا أمى/ وإننى لستُ أعرفُ غير هاتين الكفّين/ اللتين أمسكتا بكفىّ/ وأنا نحو الحياةِ أخطو/ خُطوتى الأولى/ لئلا أسقطَ/ كفّا أبى
الحقَّ أقولُ لكم/ إن لم تعودوا كالأطفال/ لن تعرفوا ماذا أقول/ أنا الطفلُ الصامتُ/ ولا تحسَبوا صَمتى قَبولًا/ ولا فهمًا لما تصنعون في عالمِكم أيها الكبارُ/ بل هو صمتُ الحيارى/ حين يُدهشُ الأطفالُ من تصاريفِ الزمان/ تلك التي تُحوّلُ الحرمانَ دِفئًا/ لحظةَ الميلاد/ وذات ليلٍ حالكٍ/ يُنتزعُ الرجاءُ/ فيستحيلُ الدفءُ صقيعًا جارحًا وحرمانا/ لأن حفنة َمالٍ/ أبرقتْ في عيون البعض
انظروا من كُوَّةِ الزمان/ نحو الأمسِ الذي كانَ/ يومَ قذفتْ بى الحياةُ إليكم/ وحيدًا متروكًا ومنسيًّا/ هذا جسدى النحيلُ/ مُضمَّخًا كان بدمِ المخاض/ مُدثرًا في لُفافاتِ المَشيمة/ مُلقًى على البلاطِ البارد/ في ركنٍ ناءٍ/ عن صحنِ المذبح/ أصرخُ/ عطشًا وبردًا وغُربةً ويُتمًا/ حتى أشفقت لحالى أجراسُ الكنائس/ فتعالى رنينُها بكاءً نازِفًا/ أيقظَ النيامَ/ وعند لحظة الاحتضار/ التقطتنى يدُ راهبٍ/ واختلطت دموعُه بدموعى/ ثم جاء ملاكٌ ببشارةِ قيامتى/ أخبر الملاكُ الراهبَ عن حالِ أمٍّ لم تلد/ وأبٍ لم يذُق طعمَ الوليد/ قال الملاكُ: شِنٌّ وافقَ ططبق
أيها الراهبُ/ اطرقِ البابَ عليهما/ وقل لهما: هذا الطفلُ عطيةُ الرحمنِ لكما/ اِمنحاه الحُبَّ/ وكونا له أبًا وأمًّا/ فكانا لى أُمًّا وأبً
هذه أمى/ قالت لأبى: قُرَّة عينٍ لى ولك/ أرضعتنى من قلبها حليبَ الشغف/ وهذا أبى/ قال لأمى: عسى أن نتّخذه ولدًا/ وصنع من ظهرِه صخرةً عليها أتكئ./ أيها السادةُ الكرامُ أقول لكم/ دون ظلِِّ أمى/ قلبى يجفُّ جدبًا/ ودون ظِلِّ أبى/ ظهرى ينكسر.
كلمتى الأولى/ كانت تردادًا لصوت تلك الباكية/ التي لا أعرفُ أمًّا سواها/ خُطوتى الأولى/ كانت فوق بُساط قلب ذاك الباكى/ الذي لم أر أبًا إلاهُ.
أيها الكبارُ/ الذين تسنّون قوانينَ الميلاد والأنساب والانتساب/ أيها الأجلاءُ الذين تنزعون الأسماءَ/ من أوراقنا/ وتغرسون غيرها/ فأصيرُ يوسفَ أو أحمدَ أو شنودةَ أو رجاءَ/ أو المنسىّ/ فجميعُ الأسماءِ تشابهت/ أمامَ ربِّ العالمين./ أيها الكبارُ الذين تصكّون الأحكامَ/ وتُمهرون مصيرى بإمضائكم/ تمهّلوا وأنصِتوا إلى نحيبِ قلبى الخائف/ الذي بعدُ لا يعرفُ ميزانَ عدالتِكم/ ولا يفهمُ شيئًا/ في حساباتكِم المعقدة/ أمهلونى بضعَ سنينَ/ حتى أنسجَ من خيوط اليُتم/ مناديلَ بيضاءَ/ تحضنُ دموعَ أمّى وأبى/ ثم أمهلونى ساعةً/ حتى تعتادَ عيناى على العتمة التى/ سوف أعيشُ في ظلالها/ حين أتركُ حِضنَ أمى/ إلى حيث لا حِضنَ/ وأغادرُ كتفَ أبى/ إلى حيثُ أرضٍ/ لا ترحِّبُ باليتامى والغرباء./ انتظرونى عند قارعةِ الطريق.
ريثما ألملمُ لُعبى/ وكراساتى/ وقطعَ الصلصالِ الملون/ لألقى بها في النهر/ فلم أعد أرغبُ فيها/ وحين تلتقى عيناى بعيونكم/ لا تشخَصوا طويلا في ضعفى/ بل أوقفوا صريرَ الإنذار وأبواقَ الوعيد/ تلك التي تزأرُ أمام باب البيت/ الذي ما عاد بيتى/ فأنتم تُخيفوننى بصخبِ عالمكم/ وتُفزعوننى بقرعِ مطارقكم/ على طاولاتِ تقرير المصير./ أحتاجُ وحسبُ/ إلى شىءٍ من الصمت/ ريثما أتأهبُ للذهاب معكم/ إلى حيث تريدون/ مكتوبٌ/ أن أعودَ من جديدٍ/ من حيثُ أتيتُ/ إلى حيثُ نذرتنى الحياةُ/ إلى البلاطِ الباردِ/ والعيونِ الخاوية/ والغدِ المجهول.
فاطمة ناعوت