كيف تغيّر الرقمنة وجه الإعلام؟
بقلم: د.مينا مجدي، مدرس جامعي و الرئيس التنفيذي و العضو المنتدب لمجموعة سترونج بلاك للخدمات التسويقية
في السنوات القليلة الماضية، شهدنا تغيرًا جذريًا في الطريقة التي نستهلك بها الأخبار والمحتوى الإعلامي. ما كان يعتمد في السابق على الصحف الورقية وشاشات التلفزيون، أصبح الآن بين أيدينا في أي لحظة على هواتفنا الذكية. هذه التغيرات ليست مجرد تحديثات تقنية؛ إنها تحول شامل في كيفية تواصلنا، تفاعلنا، وتلقي المعلومة. الرقمنة لم تطرق باب الإعلام بل اقتحمته بكل قوة، وغيّرت أساليب العمل فيه.
الصحافة التقليدية والرقمنة: قصة نجاح وصراع
خذ على سبيل المثال صحيفة نيويورك تايمز. في الماضي، كانت هذه الصحيفة تعتمد بشكل رئيسي على النسخ المطبوعة والإعلانات كوسيلة لتحقيق الدخل. لكن مع تراجع الإعلانات الورقية، أدركت الصحيفة أنه لا مفر من التحول الرقمي. في عام 2023، وصلت الصحيفة إلى ما يزيد عن 10 ملايين مشترك رقمي. هذه الزيادة الكبيرة جاءت بفضل استثمار الصحيفة في المحتوى الرقمي المتنوع، مثل مقاطع الفيديو والبودكاست والمقالات التفاعلية. اليوم، يمثل المشتركون الرقميون حوالي 70% من إيرادات الصحيفة.
ومع ذلك، ليس كل شيء سهلًا. فالتحول الرقمي يمثل تحديًا كبيرًا للإعلام التقليدي. المؤسسات الإعلامية التي لم تستطع التكيف مع الرقمنة بدأت تواجه صعوبات كبيرة في البقاء. لكن أولئك الذين استثمروا في التكنولوجيا والاشتراكات الرقمية نجحوا في تأمين مستقبلهم في هذا العصر المتغير.
وسائل التواصل الاجتماعي: منصات الإعلام الجديدة
اليوم، لا يمكن الحديث عن الرقمنة دون الإشارة إلى وسائل التواصل الاجتماعي. لقد أصبحت هذه المنصات القوة الجديدة في نقل الأخبار وتوزيع المحتوى الإعلامي. دعونا نلقي نظرة على تجربة AJ+، المنصة الرقمية التابعة لشبكة الجزيرة. بدلاً من الاعتماد على نشرات الأخبار التقليدية، ركزت AJ+ على إنتاج فيديوهات قصيرة تستهدف جيل الشباب عبر فيسبوك وإنستغرام. لقد حققت القناة نجاحًا هائلًا، وجذبت ملايين المتابعين من مختلف أنحاء العالم.
أكثر من 80% من مشاهدات الفيديوهات تأتي من مقاطع قصيرة لا تتجاوز الدقيقة، مما يعكس تفضيل الجمهور للمحتوى السريع والمباشر. كما أن هذه القناة اعتمدت على تحليل البيانات لفهم تفضيلات المشاهدين، وضبط المحتوى وفقًا لذلك. وسائل التواصل الاجتماعي، بلا شك، أصبحت اليوم أكثر من مجرد منصة للتواصل الاجتماعي؛ إنها محرك رئيسي للإعلام الرقمي.
تحديات الرقمنة: الأخبار المزيفة وحلول الذكاء الاصطناعي
لكن، الرقمنة ليست مجرد قصة نجاحات. هناك تحديات ضخمة تواجهنا، وأحد أكبر هذه التحديات هو انتشار الأخبار المزيفة. في عالم حيث يمكن لأي شخص نشر أي شيء بضغطة زر، يصبح من الصعب التمييز بين الحقيقة والخيال. وفقًا لتقرير صادر عن “رويترز” في 2021، 64% من الأخبار المتداولة على وسائل التواصل الاجتماعي في أوقات الأزمات تحتوي على معلومات مضللة.
كيف يمكن مواجهة هذا التحدي؟ الإجابة تكمن في التكنولوجيا أيضًا. رويترز، على سبيل المثال، أنشأت منصة “Reuters Fact Check” التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي في تحليل الأخبار المتداولة والتأكد من مصداقيتها. باستخدام تقنيات تحليل اللغة الطبيعية، يمكن لهذه المنصة التحقق من صحة ملايين المقالات في وقت قصير. الأرقام تظهر أن هذه الخوارزميات تزيد دقة التحقق بنسبة تصل إلى 30% مقارنة بالطرق التقليدية.
التكنولوجيا المتقدمة والإعلام: الواقع الافتراضي (VR) والذكاء الاصطناعي (AI)
التكنولوجيا تستمر في دفع الإعلام إلى الأمام. هناك أمثلة مدهشة على استخدام التقنيات المتقدمة في الإعلام الرقمي. دعونا نتحدث عن الواقع الافتراضي (VR)، الذي بدأ يأخذ مكانه كأداة جديدة لنقل القصص. صحيفة “الغارديان” أطلقت مشروع “6×9” الذي يسمح للمستخدمين بتجربة الحياة في الحبس الانفرادي عبر تقنية الواقع الافتراضي. تخيل أن تكون قادرًا على الشعور بما يشعر به السجين، وتعيش تلك التجربة بنفسك، ولو لبضع دقائق فقط. هذا النوع من الإعلام يأخذ الجمهور إلى مستوى جديد من التفاعل والتأثير.
كما أن الذكاء الاصطناعي (AI) أصبح جزءًا أساسيًا من عملية إنتاج الأخبار. وكالة أسوشيتد برس، على سبيل المثال، تستخدم الذكاء الاصطناعي لكتابة تقارير إخبارية، خاصة تلك التي تعتمد على البيانات، مثل تقارير الأرباح الفصلية. هذا النوع من الأدوات لا يحل محل الصحفيين، بل يساعدهم على التركيز في التحقيقات المعمقة بينما تتولى الخوارزميات التقارير الروتينية.
الإعلام الرقمي في العالم العربي: فرص وتحديات
في العالم العربي، شهدنا بعض التجارب الناجحة التي تجمع بين الرقمنة والإعلام. أحد الأمثلة الملهمة هو “تلفاز 11”، المشروع السعودي الذي بدأ كقناة يوتيوب بسيطة لإنتاج محتوى كوميدي، واليوم أصبح من أشهر المشاريع الإعلامية في المنطقة. هذه القناة نجحت في جذب ملايين المشاهدات، ووقعت مؤخرًا صفقة مع نيتفليكس لإنتاج محتوى حصري.
وفقًا لدراسة أجرتها مؤسسة “إبسوس” في 2022، أكثر من 70% من الشباب العربي يعتمدون على الإنترنت كمصدر رئيسي للمعلومات. هذا يفتح الباب أمام الفرص الكبيرة للإعلام الرقمي في العالم العربي، لكن يجب على المؤسسات الإعلامية أن تكون على استعداد للاستثمار في التكنولوجيا وتطوير استراتيجيات تتناسب مع تطلعات هذا الجيل الرقمي.
خاتمة
في النهاية، الرقمنة ليست مجرد موجة عابرة، بل هي مستقبل الإعلام. المؤسسات الإعلامية التي ستنجح هي تلك التي تتبنى التكنولوجيا، وتستثمر في التحول الرقمي، وتدرك أن الجمهور اليوم يريد محتوى فوري، تفاعلي، وقابل للتخصيص. نحن في العالم العربي لدينا فرصة هائلة للاستفادة من هذه الثورة الرقمية وتقديم تجارب إعلامية مبتكرة على المستوى العالمي.
الرقمنة هي المفتاح، وما علينا إلا أن نفتح به أبواب المستقبل.