لعل القارئ يتساءل عن سر تحرك «برنارد لويس» نحو القاهرة، مطلع صيف سنة ١٩٦٩، وقضائه بها عدة أسابيع باحثًا عن إمكانية قبول المصريين بالسلام مع إسرائيل، متحريًّا عن مشاعر المصريين تجاه اليهود عمومًا وموقف أجهزة الدولة تجاه اليهود، وينتهى إلى خلو المصريين من كراهية اليهود وعدم وجود موقف عنصرى لدى المصريين تجاه اليهود، باختصار هو يؤكد المؤكد، لكن لماذا الآن، أى عام ٦٩؟.
الحق أنه كانت هناك عدة فرص ومناسبات كى يبحث- هو- هذا الملف، خاصة أن علاقته بالقاهرة كانت ودودة طوال الوقت، على الأقل لم تَشُبْها قطيعة؛ كانت الفرصة مناسبة إبان أزمة مايو ٦٧، كان عبدالناصر قد فتح الباب واسعًا حين أبلغ القوى الكبرى، الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى وفرنسا، بأنه لن يبدأ القتال مع إسرائيل، ثم أعلن ذلك فى مؤتمر صحفى عالمى عقده إبان الأزمة. المعنى العميق لموقفه وتصريحه أنه لا يريد العدوان ولا يفضل الحرب؛ كان يمكن أن يكون ذلك الإعلان خطوة أولى يتم البناء عليها نحو السلام، لكن أحدًا لم يشأ أن يتحرك نحوه، من الأفراد ذوى الثقل المؤسَّسى مثل برنارد لويس ولا المؤسسات المهتمة بالملف، ناهيك عن الدول الكبرى بما فيها الاتحاد السوفيتى، حليف عبدالناصر، ولا الولايات المتحدة، المهتمة نظريًا بالسلام العالمى، وبريطانيا المتورطة تاريخيًا فى هذه القضية. أخشى القول إنهم هم مَن دفعوه ودفعوا المنطقة إلى حافة الحرب. المؤسف تاريخيًا أنه حدث العكس تمامًا، واتخذتها إسرائيل خطوة نحو العدوان على مصر وسوريا والأردن وفلسطين، ليس العدوان فقط، بل احتلال أجزاء من كل دولة، عمليًا احتلال فلسطين بالكامل؛ فبدلًا من أن تتقدم خطوة نحو الحل بناء على تصريحات ناصر، اندفعت نحو اجتياح المنطقة. الغريب أن الكل يتهم عبدالناصر ويلومه، دون حتى أن يوجهوا ملاحظة تجاه إسرائيل وما قامت به، بل إنهم يبرئونها تمامًا، إلى حد أنه تجرأ أحدهم ليقول بأعلى صوت إنه سجد لله شكرًا على الهزيمة، ولا نعرف هل نصدقه أم نُكذِّبه تأسيسًا على أنه كان محاضرًا فى بعض مؤتمرات الاتحاد الاشتراكى سنوات الستينيات.
وكانت هناك فرصة أخرى عقب العدوان مباشرةً واحتلال الأراضى العربية، خاصة أن عبدالناصر كان لا يزال فى الحكم ورفض الشعب المصرى استقالته (التنحى)، أى أنه تجددت شرعيته، وهو الطرف الأهم وكان يمكن مناقشة الأمر معه وطرحه عليه، لكن نشوة الانتصار الإسرائيلى الخاطف جعلتهم يتصورون مصر والعرب قد انتهوا إلى الأبد؛ وأن مصر لن تقوم لها قائمة مرة ثانية.
فى تلك الفترة فتح «وجيه غالى»، الأديب المصرى المقيم فى لندن، ثغرة فى هذا الجدار الأصَمّ، حين زار إسرائيل فى يوليو ٦٧، وكتب عدة رسائل صحفية فى الأوبزرفر والتايمز اللندنيتين حول إمكانية السلام بين إسرائيل والعرب عمومًا، كانت محاولة جَسورة أو مغامرة منه، يمكن القول إنه كان متهورًا، لكنه حاول ولم تجد محاولته صدى أو تجاوبًا، بل وجد غطرسة إسرائيلية تامة وتجاهلًا أوروبيًا أو تغاضيًا عن كل ما جرى مادامت الأمور فى صالح إسرائيل.
ثم جاءت فرصة كبيرة، طرحها الرئيس عبدالناصر نفسه فى بيان ٣٠ مارس سنة ٦٨، وهناك مَن رأى فى البيان محاولة من عبدالناصر لامتصاص الغضب الشعبى، الذى ظهر فى المظاهرات العارمة بالجامعات احتجاجًا على الأحكام الهزيلة فى حق قادة الهزيمة، وخاصة صدقى محمود. الرئيس السادات قال ذلك بصراحة فى كتابه «البحث عن الذات»، وبغض النظر عن النوايا وما يدور فى الضمائر؛ لكننا إزاء وثيقة سياسية مهمة، يقدم فيها عبدالناصر مشروعًا سياسيًا جديدًا لإدارة الدولة وإعادة بناء مؤسساتها، بطريقة أكثر ديمقراطية، والمهم أنه فيما يخص الصراع العربى- الإسرائيلى أو ما يسمى أزمة الشرق الأوسط، طرح البيان إمكانية الحل السياسى، وليس فقط الحل العسكرى، وأنه من الممكن تحرير الأرض المحتلة فى ٦٧؛ بدون قتال، وقد طُرح البيان للنقاش العام فى الصحافة ومجلس الأمة (البرلمان)، وكان يترأسه السادات، وفى الجامعات، ثم عُرض للاستفتاء العام، ونال موافقة كبيرة، ومن ثَمَّ فإن ما طرحه ناصر بات مُحصَنًا بمساندة شعبية طاغية. لو أن هناك مَن كان حريصًا أو مهتمًا بالسلام لتوقف كثيرًا أمام هذا البيان، بالتأكيد كان هناك مَن يعدون أنفاس عبدالناصر ويحاولون معرفة دبة النملة فى مصر، ومرة أخرى لم تجد مصر أذنًا صاغية وضاعت الفرصة، لم يكن العالم «المتحضر» يريد من عبدالناصر غير الاستسلام المُذِلّ والمهين، على الطريقة اليابانية فى الحرب العالمية الثانية، أو أن يُقدم على الانتحار كما فعل هتلر، إن كان قد فعلها؛ أو أن يستسلم بالطريقة التى حلم بها موشى ديان، وزير الدفاع الإسرائيلى، وتمنَّتْها جولدا مائير؛ رئيسة الوزراء، أى يتصل بأيهما تليفونيًا عارضًا شروط الاستسلام.
عمومًا ما كان لنا أن نتوقع من الذين نصبوا الكمين أن يتدخلوا لإنقاذ الفريسة؛ وهنا يصير التساؤل مُلِحًّا: لماذا استيقظ وانتبه- فجأة- برنارد لويس وجاء إلى القاهرة باحثًا عن إمكانية تحقيق السلام؟. فى مثل هذه الأمور لا يتحرك رجل مثله من نقطة الفضول المعرفى، كما هو متوقع بالنسبة للباحثين والمؤرخين، تاريخيًا لم يكن ذلك الفضول هو وحده ما يُحرِّك الباحث، بل لابد من دوافع أخرى، قد تكون أهم وأجدى؛ ويبدو لى أن ذلك كان حال لويس فى رحلته إلينا، قبل ٥٢ عامًا، بالتأكيد لم يجئ ليثبت أن المصريين ليس لديهم عداء للسامية، هذا ثابت ومؤكد- من قبل- يعرفه جيدًا الإسرائيليون، فى أثناء الحرب العالمية الأولى، حين تعرض اليهود فى أوروبا الشرقية للتهديد، استضافتهم مصر، وفتح سلطان مصر قصر رأس التين بالإسكندرية لإقامة بعضهم وقدم لهم كافة أوجه العون. اليهود المصريون عاشوا مُعزَّزين مُكرَّمين، وفُتحت أمامهم كافة وسائل الصعود اجتماعيًا وسياسيًا، الفيلسوف والطبيب اليهودى موسى بن ميمون نموذجًا معروفًا فى التاريخ الإنسانى وفى تاريخ مصر والمنطقة. يعقوب بن كلس، الذى تولى الوزارة، (رئيس الوزراء)، زمن الفاطميين، كان يهوديًا. كتب التاريخ والحوليات المتعلقة بمصر، مثل المقريزى وابن تغرى بردى وابن إياس وصولًا إلى الجبرتى، تفيدنا بكثير من الوقائع والأسماء، وفى زمن الملك فؤاد كان قطاوى باشا وزيرًا للمالية، وكان يهوديًا. ولماذا نذهب بعيدًا؟!، المحامى شحاتة هارون (يهودى وماركسى)، والد السيدة ماجدة هارون، كان المحامى الخاص، حتى وفاته، سنة ٢٠٠١، للحاج محمود العربى، رجل الصناعة والتجارة، الذى غادرنا إلى دار البقاء، الأسبوع قبل الماضى.
يمكن أن نرصد ثلاثة عوامل مهمة، كانت واضحة جدًا سنة ٦٩، هى التى دفعت بهذه الرحلة وجعلتها ضرورية:
– العامل الأول، حرب الاستنزاف.
– العامل الثانى، يتعلق بالحالة الصحية أو المرضية للرئيس عبدالناصر.
– العامل الثالث، ظهور إدارة جديدة فى البيت الأبيض.
حرب الاستنزاف موضع تقدير لدى كثير من الدارسين والسياسيين الغربيين، لكنها ليست كذلك لدى بعض المؤرخين والكُتاب المصريين. استمعت بأذنى من المشير طنطاوى، رحمه الله، كلمات أسى من تهجم أحد أساتذة التاريخ على تلك الحرب. الرئيس السادات أشاد بها فى سيرة حياته واعتبر تدمير المدمرة إيلات فخرًا للعسكرية المصرية كلها، وأنه أحدث تطورًا فى سلاح البحرية على مستوى العالم. المؤرخ الأمريكى «ستيف جيفين» قال إنها أول حرب لا يسمح فيها المقاتل المصرى لإسرائيل بالانتصار، وقد ناقشت المرحوم د. عبدالعظيم رمضان فى انتقاده الحاد تلك الحرب، وكان رأيه أننا بسببها تعرضنا لغارات فى العمق، وكأن هناك حربًا بلا خسائر وبلا ثمن. المهم أن هذه الحرب أكدت استعادة مصر جيشها وبسالة المقاتل وقدرة المجتمع على التحمل والصمود، وأن هناك إصرارًا مصريًا على تحرير الأرض، وفى مارس ٦٩ جرى استشهاد الفريق عبدالمنعم رياض، رئيس الأركان، وفى جنازته هتفت الجماهير مطالبة بالثأر. استشهاد رياض كان معناه أن القادة على الجبهة، وأن جيلًا مختلفًا من القادة فى الميدان، مقاتلون محترفون، لا تشغلهم ألاعيب السياسة ولا متع الحياة المدنية، يريدون فقط حماية بلدهم واسترداد الأرض، وأن الشعب معهم فى ذلك، والمعنى أنها ليست رغبة القادة فى الانتقام للهزيمة، كما تصور بعض مُنظِّرى البارات فى الليل المتأخر، بل هناك روح وطنية أعلى من مجرد الرغبة فى الثأر، الجنازة الشعبية التى تقدمها عبدالناصر فى استشهاد العظيم عبدالمنعم رياض كانت واضحة فى أن هذا الشعب لديه تصميم على الحرب ويريد الانتصار. جمال عبدالناصر فى كل لقاءاته الجماهيرية كان يقابَل بحنجرة واحدة: «حنحارب». برنارد لويس كمؤرخ وضابط مخابرات قديم، فضلًا عن أنه يهودى، يعرف جيدًا قدرة المصريين على التحدى؛ ألم يتحدَّ هذا الشعب الإمبراطورية البريطانية فور خروجها من الحرب العالمية الأولى منتصرة، وهَبَّ فى ثورة عظيمة، هى ثورة ١٩، وأمكن له انتزاع الاعتراف بالاستقلال؟!.
والحديث متصل.