يعد التعليم أداة المجتمع الناجعة واللينة والطيعة لخلق أفراد أسوياء قادرين على النهوض ببلادهم، وتحقيق أمن المجتمع بمعناه العميق والشامل، وتمثيل ثقافته والمحافظة عليها وتطويرها، وذلك بما يمتلكه التعليم من آليات تمد النشء بالقدرة على الإبداع، والابتكار، والحوار، والتخطيط للمستقبل، وشغل أوقات الفراغ، والتعايش، والتسامح، وقبول الآخر، وتحمل المسؤولية، وتوافر الالتزام بالواجب حيال الجماعة، إلى جانب أنه وسيلة لرفد برامج التنمية بأشخاص مؤهلين لتنفيذها والنهوض بها.
لهذا فإن رفعنا شعار «التعليم أولًا» ونحن نخطط لمستقبل بلادنا، فيكون ما فعلناه ليست فيه مبالغة ولا مجازفة ولا انحراف عن المطلوب ولا تجاوز فى ترتيب سُلَّم الأولويات، مثلما يتراءى للبعض ممن يتصورون أن قضية التعليم يمكن إرجاؤها، وأن المبانى يجب أن تتقدم على المعانى، وأن كل ما يجب أن يشغل الناس هو ما يملأ بطونهم، ويكسى أجسادهم، ويداوى أسقامهم، ويرفه عن أنفسهم المكدودة، إن وجدوا إلى ذلك سبيلا.
وهذه نظرة خاطئة وقاصرة فى آنٍ، فمن يعرف ويعى سيمثل أهم عناصر الإنتاج، إن قسنا الأمور بمقاييس مادية بحتة، وهو أمر خاطئ على أى حال.. فالبشر هم عماد التنمية الأساسى ومقصدها النهائى، ومن يعرف يسهل جذبه إلى الأهداف والخطط الوطنية الكبرى والراسخة، إن توافرت، وسعى واضعوها إلى بناء دولة عفية قوية مكتفية فاعلة فى محيطها ولها دور ملموس فى العالم أجمع.
ومن يؤمنون بأن المداميك الأولى فى أى بناء لمجتمع عصرى هى التعليم، لديهم كل الحق فيما يعتقدونه، ودوما لديهم ما يستشهدون به ليبرهنوا على صواب رؤيتهم. فما إن يأتى حصيف منهم على ذكر قضية التعليم إلا ويروى على مسامعنا عدة وقائع أو تجارب ممتدة عبر الزمن والحضارات والثقافات والظروف تؤكد بما لا مجال لشك فيه أنه لا أمل فى تقدم أو نهضة بينما مدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا ترزح تحت نير مناهج تعليمية متخلفة، يلقنها للدارسين معلمون لم يحصّلوا من العلم والمعرفة إلا نذرا يسيرا يستعملونه فى كسب أقواتهم، وترقى درجاتهم الوظيفية، متخففين مما فى عنق المعلم من رسالة سامية.
والحكاية، بل التجربة الأولى الأكثر ذِكرًا، هى للنبى محمد (عليه الصلاة والسلام) الذى وعى ما طالبته به أول آية فى القرآن الكريم: «اقرأ باسم ربك الذى خلق»، فقرر عقب معركة بدر، التى فُرض على أتباعه خوضها، أن يقوم كل أسير بتعليم عشرة من أبناء المسلمين القراءة والكتابة كشرط لتحريره، وكان يقول: «خيركم من تعلم العلم وعلمه» و«العلماء ورثة الأنبياء».
وهناك من تروق له طريقة الفيلسوف الإغريقى العظيم سقراط وهو يمضى بين الناس فى الأسواق ليعلمهم الحكمة، مؤمنًا بأن حيازة شباب أثينا لها ستجعلهم أقوى رسوخا، وأمضى عزما، وأكثر قدرة على البقاء من خصومهم فى إسبرطة، التى لم تكن منشغلة سوى بإعداد محاربين، لم يلبث انتصارهم السريع المؤقت العابر أن ذهب مع الزمن وبقيت حكمة فلاسفة أثينا يطلع عليها الناس ويستفيدون منها إلى أيامنا هذه.
وفى العصر الحديث، قدم الزعيم الفرنسى شارل ديجول درسًا بليغًا حين سأل عقب إبلاغه بأن الألمان قد دمروا بلاده وتركوها خرابا: ما حال الجامعة والقضاء؟ فلما أجابوه: بخير، وقف وقال فى ثقة: إذن سنكون قادرين على إعادة بناء فرنسا. ومثله سأل مهاتير محمد حين تولى الحكم: أليس فى ماليزيا ألف مهندس بارع؟ قالوا: نعم، فقال فى ثقة أشد: بهم سأبنى بلادى.
وهناك تجربة الاقتصادى البنجالى العظيم محمد يونس، حائز جائزة نوبل، الذى سعى إلى توظيف علمه كأستاذ جامعى فى خدمة ناس بلاده الذين كانوا يتضورون جوعا، فأنشأ «بنك الفقراء»، وهنا قال: « فى عام 1974 بدأت أرهب إلقاء محاضراتى على الطلاب، فما جدوى النظريات الاقتصادية المعقدة التى أقوم بتدريسها فى الوقت الذى تقضى فيه المجاعة على الناس فوق الأرصفة والطرقات التى تجاور قاعة محاضراتى؟!».
وصدق أمير الشعراء أحمد شوقى حين أنشد:
«بالعلم والمال، يبنى الناس ملكهمو….. لم يُبْن مُلْكٌ على جهلٍ وإقلالِ».
وعلينا إن أردنا أن نصلح تعليمنا أن نفرّق بشكل واضح وحاسم بين «التعليم» و«التعاليم»، فالأول ينهض به تعليم مدنى عصرى، لا يضع أمام العلم والمعرفة أى سدود أو قيود. والثانى سقط فيه كثيرون حين حوّلوا «التعليم الدينى» إلى محض تلقين وترديد وحفظ وخضوع وتسليم، زاحفين برؤيتهم تلك إلى مؤسسات تعليمنا قاطبة، التى لم تعد الأغلبية الكاسحة من المدرسين والأساتذة فيها يطرحون على تلاميذهم وطلابهم سوى سؤال واحد ممقوت: هل حفظت الدرس؟.
الصور التى تداولها الناس من المدارس فى أول يوم دراسى تؤكد صحة موقف من كانوا يصرخون- ولا يزالون- مطالبين ببناء مدارس أكثر وأكثر، وتعيين مدرسين وتدريبهم وتأهيلهم. أتمنى أن ينصرف كل تشييد على مدار شهور قادمة إلى أبنية التعليم. بلدنا سيتقدم بالتعليم قبل أى شىء غيره.
وربط تزاحم فصول الدراسة بالزيادة السكانية مردود عليه: أولا: الدولة يجب أن تسبق المجتمع فى التخطيط، وهى تملك أرقام المواليد، وبذا عليها أن تخصص جزءا من الميزانية لبناء المدارس التى تستوعب الداخلين الجدد إلى التعليم، ثانيا: هناك إنفاق مفرط فى مجالات أخرى يكفى 3% منها فقط تعليمًا جيدًا.