• 10 نوفمبر، 2024

رئيس التحرير

ناجي وليم

القمص أنجيلوس جرجس يكتب : حين بكت الأيقونات

في أحد حلقات اضطهاد الأقباط حيث لم يستطع البابا قزما أن يذهب إلى كرسيه وكان مطارداً واختبئ في قرية صغيرة بالوجه البحري فحدثت معجزة كبيرة وهي نزول دم من أيقونة للسيد المسيح بدير أنبا مقار وفاضت دموع من عيون كل الأيقونات بأديرة وادي النطرون.

أذكر هذه الحادثة لتدرك قدسية الأديرة والأماكن التي صارت مسرحاً للأقاويل وصلت لمرحلة الذم في الأديرة. فما حدث في دير أنبا مقار الأيام الماضية يجب ألا يأخذ حجماً أكبر من حجمه، وألا يكون هذا فرصة لبعض المتربصين والشامتين لتوجيه السهام والخناجر لكنيسة عريقة كم لاقت من آلام وصمتت، وكم تحملت ضربات ولم تسقط ولن تسقط لأنها شجرة جذورها عميقة عمق التاريخ، وأفرعها وارفة تظلل على العالم كله، وثمارها لا تزال تغذي كل من يطلب المعرفة والعمق الروحي.

والحادثة التي ذكرتها تظهر كم يتألم السيد المسيح معنا، وأن أديرتنا ليست مجرد حجارة وبناء وآثار من الماضي ولكنها تاريخ من الروحانية والقوة عبر العصور، حتى في الأوقات التي مرت على الكنيسة فيها اضطهادات أو ضعف كانت الأديرة ولا تزال هي القلب النابض والحصن العالي الذي كان يلجأ إليها الأقباط ليمتلئوا من القوة الروحية بصلوات الآباء الرهبان الذين يرفعون الصلوات ويسكنون الجبال والمغاير ليكونوا بركة لكل مصر.

وقد أسهمت الأديرة في حضارة العالم كله، وقد نشر “أوليري” عام 1923م كتاب اسمه “The Coptic Thootokia” جمع فيها كثير من المقطوعات الشعرية القبطية التي عثر عليها في دير أنبا مقار والمكتبة الأهلية بباريس والمتحف البريطاني، وذكر أن الشعر في الصلاة كان محبباً لدى الأقباط.

ويذكر “أليكسس مالون” نماذج من القصص الشعرية منها قصة الراهب أرشليدس الذي جاء من روما وعاش في أديرة وادي النطرون وقد نذر ألا يرى وجه امرأة طيلة حياته. وحين ذاع صيته كقديس كبير سمعت به أمه وجاءت إلى مصر لتراه ولكنه كلمها من خلف باب المغارة أنه نذر ألا يرى وجه امرأة، ولما رق قلبه لتوسلات أمه طلب من اللـه أن تدخل أمه لتراه ولكن بعد أن يأخذ روحه. وفعلاً قد حدث هذا فقد دخلت أمه ورأته ولكن قد فارق الحياة فبكت وطلبت من اللـه أن تلحق به فاستجاب اللـه لصلاتها ودفن الأثنان معاً.

وقد كانت كتابات بلاديوس وجيروم ويوحنا كاسيان عن آباء البرية نوراً يدخل إلى قلب العالم الغربي ليصير آباء مصر والبرية هم آباء العالم كله وقوة الروحانية المسيحية لأديرة العالم. وقد كانت كتابات البابا أثناسيوس والقديس كيرلس هي المرجع اللاهوتي الأكثر انتشاراً بين لاهوتيين العالم حتى أن أحد آباء الغرب قال: “إذا وجدت عبارة من أقوال أثناسيوس ولم تجد ورقة لتكتبها فاكتبها على قميصك في الحال حتى لا تنساها”.

ومنذ تأسيس الأنبا أنطونيوس لنظام الرهبنة والكنيسة القبطية تتنفس برئتين أحداها الأديرة في البرية، والأخرى بكنائسها في المدن والأثنان يسيران تحت رعاية إرشاد بابا الكنيسة.

وكان الفن القبطي هو نتاج الحضارة العظيمة التي ورثها الأقباط، فالأقباط بالأديرة والكنائس الأثرية قد حفظوا حلقة الوصل بين أجدادنا الفراعنة وبين العصر الحديث فلم تندثر تلك الحضارة لأن الكنيسة والأقباط والرهبنة قد حفظت هذا التراث فحين حرقت الكنائس أو هدمت كانت الأديرة هي الخزانة الثمينة التي حوت وحافظت على هذا التراث الحضاري.

والفن القبطي هو حلقة من حلقات التواصل الحضاري بين أجدادنا الفراعنة وعصورنا حتى أن متاحف العالم كله حرصت على اقتناء الأيقونات القبطية مثل اللوفر وبرلين والمتروبوليتان ومتحف لندن والمتحف الملكي ببلجيكا بل أنشأت جامعات العالم أقسام لدراسة الفن القبطي.

وقد أصدر العالم الفرنسي الدكتور: “بيردي بورجيه” رئيس قسم الفن القبطي بمتحف اللوفر بباريس عدة مؤلفات عن الفن القبطي منها مجلد ضخم عن النسيج القبطي. ويقول المفكر الكبير “ثروت عكاشة” في موسوعته عن الفن المصري القديم: “أن الفن القبطي عاش طول عصوره التاريخية ثابت الأصول يستوحي من البيئة المصرية، ويستمد جذوره من الفن المصري القديم”. لذلك تجد في أيقونات قبطية في أديرة الصعيد علامة “عنخ” أو “مفتاح الحياة” والسمكة التي كانت رمز الخصوبة في الفن القديم صارت رمزاً في الفن القبطي.

وكان النسيج القبطي له شهرة عالمية حتى أن المؤرخ “المقريزي” يقول في كتابه “الخطط والآثار”: “كساء الكعبة كان من أيدي الفنانين الأقباط”. وكانت كل دول أوروبا تستورد المنسوجات القبطية.
ومن التراث الذي حافظت عليه الأديرة والكنائس القبطية الموسيقي، حتى أن العالم الموسيقي الإنجليزي “أرنست نيولاند سميث” بجامعة أكسفورد ولندن الذي درس الموسيقي القبطية قال: “الموسيقي القبطية يمكن القول إنها أحدي عجائب الدنيا”.

وهي وريثة الموسيقي الفرعونية التي حين دخلت المسيحية مصر كان المصريون يصلون وينشدون بها فصاغوها على الأناشيد والصلوات المسيحية وصارت موسيقي حية للعبادة. ويقول عالم المصريات الفرنسي “ايثين دربتون”: “مفتاح سر الموسيقي الفرعونية يوجد في طابع أداء الموسيقي القبطية”.

وكانت تطلق على الألحان القبطية الأماكن التي خرجت منها مثل اللحن السنجاري نسبة إلى سنجار شمال محافظة الغربية وكانت بها أديرة كثيرة في العصر القبطي، أو اللحن الأدريبي نسبة إلى أتريب حيث الدير الأحمر والأبيض بأخميم.
هذا بجانب اللغة القبطية التي هي التطور الحضاري للغة الديموطيقية، والتي حافظ عليها الأنبا شنودة رئيس المتوحدين في القرن السادس من هجوم اللغة اليونانية. ثم حافظ عليها الأقباط والأديرة حتى الآن، والتي بدونها لما استطاع شامبليون أن يفك رموز حجر رشيد ويفتح طاقة النور على تراث وحضارة أجدادنا.

عزيزي القارئ كل هذا التراث والحضارة الروحانية هي أحد أعمدة مصر التي تجعلنا جميعاً فخورين بأننا ننتمي إلى هذه الحضارة الروحية والفنية والحضارية. وكما شهد المؤرخ بتلر: “أن مصر وهي الأقرب إلى مهد المسيحية سبقت العالم في بناء الكنائس وذلك لوضعها الحضاري”.

المقال السابق

دينا جرجس أول مرأة مصرية تفوز بجائزة شركة باير الألمانية للنساء المتميزات في علم البيانات

المقال التالي

بالفيديو .. الأنبا بيمن يحكى ذكرياته مع المتنيح الأنبا كاراس أسقف عام المحلة

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *